فصل: فائدة (في معنى الوادي):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تنبيه في الآية دلالة على فضيلة الصدق وكمال درجته ويدلّ عليه أيضًا أشياء:

منها ما روي عن ابن مسعود أنه قال: عليكم بالصدق فإنه يقرب إلى البرّ والبرّ يقرب إلى الجنة وإنّ العبد ليصدق فيكتب عند الله تعالى صدّيقًا وإياكم والكذب فإنّ الكذب يقرّب إلى الفجور والفجور يقرّب إلى النار وإنّ الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابًا ألا ترى أنه يقال: صدقت وبررت وكذبت وفجرت.
ومنها ما روي أنّ رجلًا جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال: إني رجل أريد أن أومن بك إلا أني أحبّ الخمر والزنا والسرقة والكذب والناس يقولون إنك تحرّم هذه الأشياء ولا طاقة لي على تركها فإن قنعت مني بترك واحدة منها فعلت فقال صلى الله عليه وسلم: «اترك الكذب» فقبل ذلك ثم أسلم فلما خرج من عند النبيّ صلى الله عليه وسلم عرضوا عليه الخمر فقال: إن شربت وسألني النبيّ صلى الله عليه وسلم وكذبت فقد نقضت العهد وإن صدقت أقام عليّ الحدّ فتركها ثم عرضوا عليه الزنا فجاء ذلك الخاطر فتركه وكذا في السرقة فعاد إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال: ما أحسن ما فعلت لما منعتني عن الكذب انسدّت أبواب المعاصي عليّ وفات الكل.
ومنها ما قيل في قوله تعالى حكاية عن إبليس: {فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين} لأنّ إبليس إنما ذكر هذا الاستثناء لأنه لو لم يذكره لصار كاذبًا في ادّعاء إغواء الكل فكأنه استنكف عن الكذب فذكر هذا الاستثناء وإذا كان الكذب شيئًا يستنكف منه إبليس لعنه الله فالمسلم أولى أن يستنكف منه.
ومنها قول ابن مسعود: الكذب لا يصلح في جدّ ولا هزل ولا أن يعد أحدكم أخاه ثم لا ينجز له اقرأوا إن شئتم وكونوا مع الصادقين.
{ما كان} أي: ما صح وما ينبغي بوجه من الوجوه {لأهل المدينة} أي: دار الهجرة ومعدن النصرة {ومن حولهم} أي: في جميع نواحي المدينة الشريفة {من الأعراب} أي: سكان البوادي وهم مزينة وجهينة وأشجع وأسلم وغفار، وقيل: عام في كل الأعراب لأنّ اللفظ عام وحمله على العموم أولى وقوله تعالى: {أن يتخلفوا عن رسول الله} أي: عن حكمه وقوله تعالى: {ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه} أي: بأن يصونوها عما رضي لنفسه عليه الصلاة والسلام من الشدائد يجوز فيه النصب والجزم على أن لا ناهية.
روي عن أبي خيثمة أنه بلغ بستانه واستوى ونضج وله امرأة حسناء فرشت له في الظلّ وبسطت له الحصير وقربت له الرطب والماء البارد فقال: ظلّ ظليل ورطب يانع أي: ناضج وماء بارد وامرأة حسناء ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الضح والريح ما هذا بخير فقام فرجل ناقته وأخذ سيفه ورمحه ومرّ كالريح فمدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفه إلى الطريق فإذا براكب يزهاه السراب أي: يدفعه وهو عبارة عن السرعة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كن أبا خيثمة» فكان هو ففرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم واستغفر له {ذلك} أي: النهي عن التخلف {بأنهم} أي: بسبب إنهم {لا يصيبهم ظمأ} أي: عطش {ولا نصب} أي: تعب {ولا مخمصة} أي: مجاعة {في سبيل الله} أي: في طريق دينه {ولا يطؤن} أي: يدوسون وقوله تعالى: {موطئًا} مصدر أي: وطأ أو مكان وطء {يغيظ} أي: يغضب {الكفار} أي: وطؤهم له بأرجلهم ودوابهم {ولا ينالون من عدوّ نيلًا} أي: قتلًا أو أسرًا أو غنيمة أو هزيمة أو نحو ذلك قليلًا كان أو كثيرًا {إلا كتب لهم به} أي: بذلك {عمل صالح} أي: ثواب جزيل عند الله تعالى يجازيهم به {إنّ الله لا يضيع أجر المحسنين} أي: لا يترك ثوابهم وأظهر موضع الإضمار تنبيهًا على أنّ الجهاد إحسان.

.تنبيه في هذه الآية دلالة على أنّ من قصد طاعة الله تعالى كان قيامه وقعوده ومشيه وحركته وسكونه كلها حسنات مكتوبة عند الله تعالى:

وكذا القول في طرف المعصية فإنّ حركته فيها كلها سيآت فما أعظم بركة الطاعة وما أكبر ذل المعصية إلا أن يغفرها الله تعالى.
وعن أبي عيسى رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من اغبرّت قدماه في سبيل الله حرّمه الله تعالى على النار».
{ولا ينفقون} في سبيل الله: {نفقة صغيرة} تمرة فما دونها {ولا كبيرة} أي: أكثر منها مثل ما أنفق عثمان رضي الله تعالى عنه في جيش العسرة {ولا يقطعون} أي: يجاوزون {واديًا} أي: أرضا في سيرهم مقبلين أو مدبرين {إلا كتب لهم} ذلك من الإنفاق وقطع الوادي {ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون} أي: يجزيهم الله جزاء هو أحسن من أعمالهم وأجل وأفضل وهو الثواب.

.فائدة [في معنى الوادي]:

الوادي كل منفرج بين جبال وآكام يكون منفذًا للسبيل وهو في الأصل فاعل من ودى إذا سال ومنه الوادي وقد شاع في استعمال العرب بمعنى الأرض يقولون: لا تصلّ في وادي غيرك.

.تنبيه [على فضل الجهاد والإنفاق فيه]:

في الآية دليل على فضل الجهاد والإنفاق فيه ويدل عليه أشياء:
منها ما روي عن ابن مسعود قال: جاء رجل بناقة مخطومة فقال: هذه في سبيل الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة».
ومنها ما روي عن زيد بن خالد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من جهز غازيًا في سبيل الله فقد غزا ومن خلف غازيًا في سبيل الله فقد غزا».
ومنها ما روي عن سهل بن سعد الساعديّ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها وموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما عليها» وفي رواية وما فيها.
ومنها ما روي عن أبي سعيد الخدري أنّ رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيّ الناس أفضل؟ قال: «مؤمن مجاهد بنفسه في سبيل الله» قال: ثم أيّ؟ قال: «ثم رجل في شعب من الشعاب يعبد الله تعالى» وفي رواية يتقي الله ويدع الناس من شرّه وقوله تعالى: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} فيه احتمالان:
الأول أنه كلام مبتدأ لا تعلق له بالجهاد.
والثاني أن يكون من بقية أحكام الجهاد فعلى الأوّل يقال: وما استقام لهم أن ينفروا جميعًا لنحو غزو وطلب علم كما لا يستقيم لهم أن يتثبطوا جميعًا فإنه يخلّ بأمر المعاش {فلولا} أي: فهلا {نفر من كل فرقة} أي: قبيلة {منهم طائفة} أي: جماعة ومكث الباقون {ليتفقهوا} أي: ليتكلفوا الفقاهة {في الدين} ويتجشموا مشاق تحصيلها ليعرفوا الحلال من الحرام ويعودوا إلى أوطانهم {ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم} أي: وليجعلوا غاية سعيهم ومعظم غرضهم من الفقاهة إرشاد القوم وإنذارهم وتخصيصه بالذكر لأنه أهمّ وفيه دليل على أنّ التفقه والتذكير من فروض الكفاية وأنه ينبغي أن يكون غرض المتكلم فيه أن يستقيم ويقيم لا الترفع على الناس وصرف وجوههم إليه والتبسط في البلاد ليدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين» وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم» وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «من سلك طريقًا يلتمس فيها علمًا سهل الله تعالى له طريقًا إلى الجنة».
{لعلهم يحذرون} عقاب الله تعالى بامتثال أمره ونهيه، وعلى الاحتمال الثاني يقال: إنه لما نزل في المتخلفين ما نزل سبق المؤمنين إلى النفير وانقطعوا عن التفقه فأمروا بأن ينفر من كل فرقة طائفة إلى الجهاد ويمكث الباقون يتفقهون حتى لا ينقطع التفقه الذي هو الجهاد الأكبر لأنّ الجدال بالحجة هو الأصل والمقصود من البعثة فيكون الضمير في ليتفقهوا ولينذروا لبواقي الفرق بعد الطوائف النافرة للغزو وفي رجعوا للطوائف ولينذروا لباقي قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم بما حصلوا أيام غيبتهم من العلوم قال ابن عباس: فهذه مخصوصة بالسرايا والتي قبلها بالنهي عن تخلف أحد فيما إذا خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم أمروا بقتال الأقرب منهم فالأقرب كما أمر صلى الله عليه وسلم أوّلًا بإنذار عشيرته الأقربين، وقد حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه ثم غيرهم من عرب الحجاز ثم غزا الشام، وقيل: هم قريظة والنضير وفدك وخيبر، وقيل: الروم لأنهم كانوا يسكنون الشام والشام أقرب إلى المدينة من العراق وغيره وهكذا المفروض على أهل كل ناحية أن يقاتلوا من وليهم ما لم يضطرّوا إلى أهل ناحية أخرى {وليجدوا فيكم غلظة} أي: شدّة وصبرًا على القتال والغلظة ضدّ الرقة أي: اغلظوا عليهم {واعلموا أنّ الله مع المتقين} بالعون والنصرة والحراسة.
{وإذا ما أنزلت سورة} من القرآن {فمنهم} أي: المنافقين {من يقول} أي: لأصحابه إنكارًا واستهزاءً بالمؤمنين {أيكم زادته هذه} السورة {إيمانًا} أي: تصديقًا، قال الله تعالى: {فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانًا} بزيادة العلم الحاصل في تدبر السورة وانضمام الإيمان بها وبما فيها إلى إيمانهم {وهم يستبشرون} أي: يفرحون بنزولها لأنه سبب لزيادة كمالهم وارتفاع درجاتهم {وأما الذين في قلوبهم مرض} أي: شك ونفاق سمي الشك في الدين مرضًا لأنه فساد في القلب يحتاج إلى علاج كالمرض في البدن إذا حصل يحتاج إلى علاج {فزادتهم} أي: السورة أي: نزولها {رجسًا إلى رجسهم} أي: كفرًا بها مضمومًا إلى الكفر بغيرها {وماتوا} أي: هؤلاء المنافقون {وهم كافرون} أي: وهم جاحدون لما أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم قال مجاهد: في هذه الآية دليل على أنّ الإيمان يزيد وينقص، وكان عليّ رضي الله تعالى عنه يأخذ بيد الرجل والرجلين من الصحابة ويقول: تعالوا حتى نزداد إيمانًا وقوله تعالى: {أولا يرون} قرأه حمزة بالتاء أي: أيها المؤمنون والباقون بالياء على الغيبة أي: المنافقون {أنهم يفتنون} أي: يبتلون {في كل عام مرّة أو مرّتين} بالأمراض والقحط والحرب {ثم لا يتوبون} من نفاقهم ونقض عهودهم إلى الله تعالى: {ولا هم يذكرون} أي: ولا يتعظون بما يرون من نصرته صلى الله عليه وسلم وتأييده.
{وإذا ما أنزلت سورة} فيها عيب المنافقين وتوبيخهم وقرأها صلى الله عليه وسلم {نظر بعضهم إلى بعض} أي: تغامزوا بالعيون إنكارًا لها وسخرية أو غيظًا لما فيها من عيوبهم ويريدون الهرب يقولون: {هل يراكم من أحد} أي: من المؤمنين إذا قمتم فإن لم يرهم أحد قاموا وخرجوا من المسجد وإن علموا أنّ أحدًا يراهم ثبتوا على تلك الحالة {ثم انصرفوا} على كفرهم ونفاقهم وقيل: انصرفوا عن مواضعهم التي يسمعون فيها ما يكرهون وقوله تعالى: {صرف الله قلوبهم} أي: عن الهدى يحتمل الإخبار والدعاء {بأنهم} أي: بسبب أنهم {قوم لا يفقهون} أي: لسوء فهمهم وعدم تدبرهم.
{لقد جاءكم رسول من أنفسكم} أي: من جنسكم عربيّ مثلكم وهو محمد صلى الله عليه وسلم تعرفون حسبه ونسبه، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ليس قبيلة من العرب إلا وقد ولدت النبيّ صلى الله عليه وسلم وله فيها نسب وقال جعفر بن محمد الصادق: لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية من زمن آدم عليه السلام، وعن الطبرانيّ قال صلى الله عليه وسلم: «إني خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح».
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ولدني من سفاح أهل الجاهلية شيء ما ولدني إلا نكاح كنكاح الإسلام» وعن واثلة بن الأسقع قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ الله اصطفى كنانة من ولد إسمعيل واصطفى قريشًا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم».
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بإدغام دال قد في الجيم والباقون بالإظهار {عزيز} أي: شديد شاق {عليه ما عنتم} أي: عنتكم وإيتاؤكم المكروه وقيل: يشق عليه ضلالتكم {حريص عليكم} أي: أن تهتدوا أو على إيصال الخير إليكم {بالمؤمنين} أي: منكم ومن غيركم {رؤوف} أي: شديد الرحمة بالمطيعين {رحيم} بالمذنبين وقدّم الأبلغ وهو الرؤوف محافظة على الفواصل، وعن الحسن بن الفضل: لم يجمع الله تعالى لأحد من الأنبياء بين اسمين من أسمائه إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم فسماه رؤوفًا رحيمًا، وقال تعالى: {إنّ الله بالناس لرؤوف رحيم} وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وحفص بمدّ الهمزة من رؤوف، والباقون بالقصر.
{فإن تولوا} أي: فإن أعرضوا هؤلاء الكفار والمنافقون عن الإيمان بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وناصبوك الحرب {فقل حسبي الله} أي: يكفيني الله وينصرني عليكم وإنما كان كافيًا لأنه {لا إله إلا هو} فلا مكافئ له ولا رادّ لأمره ولا معقب لحكمه {عليه توكلت} أي: فلا أرجو إلا إياه ولا أخاف إلا منه لأنّ أمره نافذ في كل شيء {وهو رب العرش} أي: الكرسي {العظيم} وخصه بالذكر تشريفًا له ولأنه من أعظم مخلوقاته سبحانه وتعالى.
روي عن أبيّ بن كعب قال: آخر ما نزل من القرآن هاتان الآيتان: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} إلى آخر السورة، وقال: هما أحدث الآيات بالله عهدًا وما رواه البيضاويّ رحمه الله تعالى تبعًا للكشاف من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ما أنزل عليّ القرآن إلا آية آية وحرفًا حرفًا ما خلا سورة براءة وقل هو الله أحد فإنهما أنزلا عليّ ومعهما سبعون ألف صف من الملائكة» حديث منكر ومخالف لما مرّ عن أبيّ من أنّ آخر ما نزل الآيتان، انتهى. والله سبحانه وتعالى أعلم. اهـ.